



منزل المهاتما غاندي هو سكن داخلي خاص، يتكوّن من عدة طوابق، في كل طابق ١٠ غرف، ومطبخ، وحمّامين. يُدار هذا السكن من قِبل منظمة خاصة، وتُعد أسعاره رخيصة مقارنة بالسكن الخاص، لكنه ليس فاخرًا مثل داخليات الجامعة، التي يتطلب الحصول على غرفة فيها تقديم طلب وانتظار قد يصل إلى سنة حتى يتوفر مكان شاغر. تكلفة الغرفة في هذا السكن ٢٥٠ يورو، ويُعد هذا مبلغًا معقولًا مقارنة بأسعار السكن الخاص، التي قد تصل في المتوسط إلى ٤٠٠ يورو.



من أمبدة، الحارة ١٤، تحركتُ بعد أداء صلاة العشاء يوم ٢٢ مارس ٢٠٢٣، الموافق لليلة الأولى من رمضان، متجهًا إلى مطار الخرطوم. ثم سافرت عبر الخطوط التركية، مرورًا بإسطنبول، إلى فرانكفورت، وهي تُعد المدينة الأكبر بعد العاصمة برلين، ويوجد بها عدد كبير من السودانيين والعرب.




كانت خطتي الأولى البقاء في فرانكفورت ثلاثة أيام لاكتشاف المدينة قبل التوجه إلى غوتنغن، لكن تغيّر ذلك بعد أن عرفت بوجود استقبال وبرامج في كلية العلوم الرياضية بغوتنغن. وليتني بقيت في فرانكفورت، فقد كان البرنامج عبارة عن تعارف بسيط فقط، وكنا ١١ طالبًا دوليًا، وكنت سأتعرف عليهم لاحقًا لا محالة. قامت الدكتورة بدعوتنا للأكل في كافتيريا الجامعة على حسابها، لكنني كنت صائمًا بسبب رمضان، فلم ألبي الدعوة.
تحركت من فرانكفورت إلى غوتنغن، ولحسن حظي أثمر بحثي المسبق عن السكن، حيث وجدت غرفة في سكن المهاتما غاندي، بعد أن نشرت إعلانًا في مجموعة على فيسبوك لطلاب الجامعة عن بحثي عن سكن
صوري في مبنى الجامعة الرئيسي






ومن الإيجابيات في جامعة غوتنغن أن مكتب الطلاب الدوليين ينظم محاضرات أونلاين للطلاب المقبولين، بغرض إرشادهم حول كل ما يتعلق بالفيزا، والسكن، والدراسة، وكل الجوانب الأساسية لبدء الحياة الدراسية. كما يقوم بربط الطالب بأحد الطلاب الأقدم (رفيق دراسي – study mate) لمساعدته والإجابة عن أسئلته. كذلك ينظم المكتب برنامج استقبال كبير للطلاب الدوليين المقبولين، إضافة إلى برنامج الاستقبال الخاص بالكلية




تغطية الفاعلية علي موقع الجامعة
حرصت على التقاط صور اعلاه كتذكار من فعالية الاستقبال، وأيضًا شماتة في أشخاص معينين. هذه لم تكن المرة الأولى التي أحصل فيها على قبول جامعي في ألمانيا، فقد حصلت على قبول في عام ٢٠١٠، لكن جهاز الأمن السوداني التابع للنظام الكيزاني تسبّب في منعي من السفر، وهي قصة قد أرويها لاحقًا.
وربما كانت من الأسباب الرئيسية التي دفعتني لأصبح ناشطًا سياسيًا ضد الحكومة، رغم أنني لم أنتمِ إلى أي حزب سياسي.
فقد عُرض علي الانضمام لبعض الأحزاب أثناء الجامعة، لكنني لم أقبل. وكنت بدأت نشاطي النقابي من خلال الجمعيات الإسلامية والنشاطات الطلابية، مثل رئاستي لأسرة الدفعة في السنة الثالثة.كان هدف جهاز الأمن السوداني من الضغط عليّ هو ضمي إلى المؤتمر الوطني، وبعد جهد كبير منهم وكيد خسيس يليق بهم، كانت النتيجة أنني أصبحت ناشطًا ضدهم
بعد وصولي إلى غوتنغن، تواصل معي الطالب الذي كان سيغادر، واسمه أحمد، وأخبرني كيف أصل إلى السكن. ذهبت مباشرة إلى هناك والتقيت به. ولحسن حظي، كان هناك مشرف سودانيًّ (الهادي) ، يقيم في ألمانيا منذ فترة طويلة، ويسكن في الطابق الأرضي الذي يُعد الأفضل، خاصةً للعائلات.التقيت به ووتحدثنا. ومن النصائح الأساسية التي قدمها شراء دراجة، لأنها عملية جدًا في التنقل بين الجامعة والسكن، رغم أن المواصلات مجانية بالنسبة للطلاب
لكنها تستغرق وقتًا أطول. دلّني الهادي على رجل سوري يعمل في سوبرماركت اسمه “أسواق الإيمان”، يملكه أكراد مهاجرون من العراق، فاشتريت دراجة مستعملة بـ٣٠ يورو تقريبًا.
هؤلاء الأكراد طيبون جدًا. كان بداية الحديث معهم عندما عرفوا أنني من السودان، فسألني أحدهم باللهجة العراقية: “اش لونك؟”، وتعني “كيف حالك؟”. أجبته: “لوني بني”، فضحكنا، ورويت له قصة صديقي مدثر الذي كانت أخته ابتهال تسألني دائمًا: “اش لونك؟”، فأجيبها: “بني”.
غوتنغن بلدة صغيرة نسبيًا. أخبرتني أستاذة أنها كانت كبيرة في الماضي، لكن تقلصت بعد الحرب. وقد درس فيها عالم الرياضيات الشهير “غاوس” ويوجد بها قبره، وتلميذه “ريمان”، الذي أسس الهندسة الريمانية، وهي فرع متخصص من الرياضيات يدرس خواص الأشكال في الطبيعة.فمثلاً، الهندسة الإقليدية (التقليدية) التي ندرسها في المدارس، تنص على أن مجموع زوايا المثلث هو ١٨٠ درجة. أما الهندسة الريمانية، فترى أن المثلث على سطح الأرض اي في الطبيعة، مثلاً، قد يكون مجموع زواياه أكبر من ١٨٠ درجة

“كذلك، دَرَّسَ في غوتنغن العالم “أينشتاين”.
كان من المفترض أن أقدّم سمنارًا في مادة تُسمى
“How you solve it”،
حيث تُعطى مسائل رياضية نحاول حلها، والهدف منها هو تعلم أساليب البرهان
وكان هناك امتحان نصفي اختياري، والمتميزون فيه يُسمح لهم بالمشاركة باسم الجامعة في الأولمبياد الأوروبي للرياضيات. لكن للنجاح في المادة، يكفي تقديم سمنار عن تاريخ الرياضيات، أو شرح طريقة الحل لبعض التمارين في الصف.
لم أكن حينها في كامل لياقتي الذهنية للمشاركة في الأولمبياد، رغم حماسي الشديد للرياضيات. أظنني كنت بحاجة لفترة تدريب أو “إحماء” لاستعادة اللياقة الذهنية والتميز الأكاديمي
في السكن، كان يسكن في الغرفة المجاورة لي “جميس” من جنوب السودان، وكنا عشرة أشخاص، معظمهم من باكستان، الهند، إثيوبيا، فلسطيني.وسودانيون آخرون, في الطوابق الأخرى، كانت تسكن فتاة سودانية، وفي الطابق الأرضي دكتورة سودانية مع زوجها وأولادها، وكان هناك أيضًا مصريون، منهم محمد من الإسكندرية، يدرس القانون، وآخرون يدرسون الطب.كانت خطتي في البداية أن أزور كل أسبوع مدينة ألمانية خلال عطلة نهاية الأسبوع لاكتشافها، لكن الخطة فشلت فشلًا ذريعًا بسبب دكتورة كانت تدرّسنا مادة اسمها “التحليل الدالي”، وكانت تعطينا تمرينًا كل أسبوع




فكنت أقضي الإجازة كلها محاولًا حل التمرين، وكان النجاح في هذه التمارين شرطًا أساسيًا للجلوس للامتحان النهائي.أظن أن طول المدة بين الماجستير والبكالوريوس جعل الدراسة أصعب مما كانت عليه في الماضي. وآخر الحلول كان أن انضممت إلى مجموعة من الطلاب الغانيين، التقيت باحدهم (عبدالله)في المسجد، وكنا نحاول حل التمارين معًا كل يوم أحد
ولو عاد بي الزمن، لاخترت الاستمتاع بعطلة نهاية الأسبوع بدلًا من قضاءها في التمارين، فكما كانت تقول جدتي – رحمها الله – “شق الديار علم”. ومؤكد أن الفرص في مجال الرزق والعمل الحر أو الوظيفي ستُتاح مع الحركة والسعي
(وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَة)
في غوتنغن، يوجد حوالي ٣٠٠ سوداني، كما قيل لي. التقيت بعشرة منهم, اضافة لطالبين يدرسان في الجامعة، وهم مجموعة أصدقاء جاءوا إلى أوروبا عبر البحر، بدءًا من إيطاليا ثم فرنسا، واستقروا أخيرًا في ألمانيا. شاهدت فيديو لسودانية منهم من جبال النوبة على متن قارب مع ابنتيها، والمياه تتلاطم حولهم
يتبع ان شاء الله